السودان
ارض الحضارات (1)
نشر
في الانتباهة . 17 نوفمبر 2012
د. أزهري مصطفى صادق
يعد
السودان ، بحدوده المعروفة حالياً ، أرضاً لأقدم الممالك والحضارات في منطقة جنوب
الصحراء ، وذا تراث آثاري وتاريخي لا يزال اغلبه غير معروف او مكتشف. وفي بلد مترامي
الأطراف ، لا يزال العمل الآثاري بطيئاً وقليل الموارد ، فلا زلنا في بداية الطريق
لمعرفة اصول اهم واكبر الممالك في كرمة (2500 الى 1500 قبل الميلاد) ، ودولة كوش –
مروي (800 قبل الميلاد الى 350 ميلادية) ، والممالك المسيحية وسلطنات سنار ودارفور
في فترة العصور الاسلامية المبكرة.
لقد
اكتسب السودان اهميته وسط علماء الآثار والتاريخ من كونه منطقة للتفاعل بين تقاليد
ثقافية متنوعة تربط أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى ومصر والبحر الأبيض المتوسط،
وما وراءهم. كما انه تطور منذ وقت مبكر وبشكل استثنائي في الأنظمة السياسية الحاكمة
في نهر النيل مما قدم فرصاً رائعة لدراسة تطور السلطة السياسية ، وكذلك في جوانب أخرى
كالزراعة والعمران.
لقد
ظلت دوائرنا الاعلامية ومنذ فترة بعيدة تركز جل اهتمامها في عبارة (السودان ارض
الحضارات) دون ان تقدم للمواطن العادي او حتى من لهم اهتمام ، ولو قليل ، بالتاريخ
والآثار ماهية هذه العبارة ومدلولاتها ، وتوجه جل ظننا ان الآثار إنما في كرمة والبركل
ومروي وسوبا وغيرها. ولم تفلح هذه العبارة رغم ضخامتها في توجيه الوعي المجتمعي
لاحترام هذه الآثار في كونها تمثل قيماً تراثية وتاريخية فريدة. وبدلاً من ذلك
ينظر الكثيرون لهذه الآثار بانها (خرابات وكسار وطوب قديم من زمن العنج) حتى دون
معرفة من هم العنج وما اصولهم ، فما ترسخ في اذهانهم لزمان طويل لا يمكن محوه او
تعديله بسهولة. وكلنا شركاء في هذا الفهم الخاطئ لأننا لم نعكس علاقة المواقع
الأثرية بالتعليم ، والسياحة ، وتنمية المجتمعات المحلية والتأثيرات على المستويات
الاقتصادية والاجتماعية وان حفظ التراث الثقافي والآثاري يسهم في حفظ الهوية
المحلية والقومية ويمثّل عنصراً مهماً في التنمية الاقتصادية للمنطقة.
ان
عبارة (السودان أرض الحضارات) لهي حقيقة واقعة ودلائلها بينة وجلية ، وبيناتها
متشعبة ومعقدة ، والحديث فيها يطول ، بل ان كثير من الجامعات العالمية لها مناهج
موجهة صراحة لدراسة الآثار السودانية ، والمتخصصين فيها والدارسين لها بالألاف.
الا يدعو ذلك للتساؤل عن هذه الحضارات واصولها ؟؟ وسماتها واراضيها وحكامها
ومواطنيها وتقاليدها ودياناتها ، وازدهارها وافولها؟؟.. لا اود ان يكون الحديث في
هذا الجانب علمياً بحتاً وانما سرداً مبسطاً في حلقات قد تسهم في نهاية الامر الى
فهم أفضل لعبارة (السودان ارض الحضارات).
السودان
ارض الحضارات (2) قصة الانسان في السودان
نشر
في الانتباهة . 24 نوفمبر 2012
د. أزهري مصطفى صادق
في
اوائل القرن العشرين ، احتفت الأوساط الآثارية باكتشاف مثير في منطقة صغيرة بالقرب
من سنجة بجنوب النيل الأزرق أطلق عليه اسم (جمجمة سنجة Singa
Skull) ورأى
الكثيرون أنها تمثل حلقة هامة في دراسات الانسان في العالم فيما يعرف بالعصر
الحجري القديم. اكتمل هذا العمق التاريخي الطويل باكتشاف حديث لأدوات وبقايا قديمة
في جزيرة صاي ترك صدى أكبر بين الاوساط العلمية في العالم ، واعتبر من اقدم ما عرف من آثار تركها
الانسان على طوال وادي النيل. لقد احتفى الاجانب بهذين الاكتشافين
لسنوات طويلة ومثلا مادة دسمة للتحليلات والافتراضات المتعلقة بقصة وثقافة الانسان
في وادي النيل وشمال افريقيا. لقد نظروا لإنسان سنجة وأدوات صاي على انهما دليل
على انطلاق الانسان القديم من وادي النيل السوداني ليكتشف العالم من حوله ، حاملاً
ثقافته وإرثه البشري .. القليلون سمعوا بهذين الاكتشافين في سوداننا الحبيب ، ولم
يكنا يوماً في قصص التراث المجتمعي او حتى اساطيره. في العرف البشري ، انهما ليسا
إرثاً سودانياً فحسب ، بل يعدا جزءاً من موسوعة قصة الإنسان القديم وإنجازاته الكبري.
السودان
ارض الحضارات (3) عندما تحولت السافنا إلى صحراء
نشر
في الانتباهة . 1 ديسمبر 2012
د.
أزهري مصطفى صادق
تتراوح
معدلات الأمطار السنوية في أقصى شمال السودان ما يقارب الصفر ، حيث تتساقط الأمطار
في تلك المناطق مرة كل خمس أو ست سنوات، إلى 500 مليمتر إلى 1000 مليمتر في مناطق
الوسط والجنوب الغربي. ومع وقوعه في المنطقة
المدارية ، تمتعت معظم أجزاء السودان الشمالية والوسطى بمناخ صحراوي
أو شبه صحراوي جاف ، بينما لا تزال أغلب تخومه الجنوبية والجنوبية الغربية في
إقليم مناخ السافنا
الفقيرة والغنية.
لم يكن هذا هو الحال قبل ستة آلاف عام ، عندما كانت كل مساحة السودان تتمتع بمناخ
السافنا الغنية وأرضاً تغطيها الغابات والمراعي وتجري فيها أنهار ووديان وخيران وروافد مائية عديدة ،
وتعيش فيها ، حتى في أقسى مناطقه قحطاً اليوم ، شتى أنواع الحيوانات البرية
كالأفيال والزراف والغزلان وحمر الوحش وغيرها. قد تبدو الكلمات الأخيرة غير مألوفة
للقارئ الكريم ، وربما يشيح ببصره عنها وينتقل الى موضوع آخر يبدو له أكثر جدية
مما سأتناوله هنا. وللوهلة الأولى ، قد يبدو حديثي من قبيل الخيال، لكنى على يقين أنه متى ما تمعن
في معاني ما سأطرحه ، وأدرك ما أعنيه ، ولو ضمنياً ، سينقل حينئذ من موقف الشك فيه
الى منزلة الدهشة والاعجاب بل والتعجب كذلك.
انجزت المعلومات التي ذكرتها حول مناخ السودان في الماضي ، من خلال تحليل
آلاف البينات الأحيائية والآثارية والجغرافية على مدى المائة سنة الماضية من قبل
العديد من علماء الآثار والنبات والحيوان وغيرهم. شملت كذلك العديد من الرسوم الصخرية ذات صلة مباشرة
مع مخلفات سكنيه تعود لتلك الفترة المبكرة من ما قبل التاريخ ، وهناك الآلاف من
الرسومات المنحوتة في الصخور في الصحراء وعلى طول نهر النيل تشمل حيوانات بريه
كالزراف والغزال وحمار الوحش والفيل وفرس النهر والخرتيت. وجود مثل هذه الحيوانات
يتطلب معدلاً محدداً من الأمطار ، ومراعٍ ، وظروف مناخية معينة تفتقدها اليوم اغلب
المناطق التي وجدت فيها هذه الرسوم. حتى في منطقة الخرطوم تم الكشف على العديد من
عظام الحيوانات البرية كالأفيال والأسود وأفراس النهر والخرتيت وغيرها ، أرخت الى
الفترة الممتدة من 7000 الى 3000 ق.م مع تأكيد معدل امطار يزيد عن 750 ملم سنوياً
، مما يعنى وقوع منطقة الخرطوم في منطقة السافنا الغنية في ذلك الوقت.
مع وجود هذا المناخ الرطب ، سكن الناس في تلك الفترة
في أغلب مناطق الصحراء اليوم ، خاصة في الوديان التي كانت تعتبر روافد في الماضي
والتي شكلت في الماضي ممرات طبيعية خلال المراحل المناخية الملائمة ، واستقرت على طول ضفافها جماعات من الصيادين والرعاة استخدمت الفخار ،
واستغلت الموارد المائية الدائمة. وخلال السنوات القليلة الماضية اكتشفت
العديد من عظام الحيوانات المتحجرة والأسماك في مناطق صحراوية قاحلة من بينها
منطقة القعب الى الغرب من دنقلا حيث كشفت أعمال قسم الآثار جامعة الخرطوم بقيادة
الدكتور يحي فضل طه عن واحدة من أهم الدلائل الآثارية والأحيائية في تلك المنطقة وشملت
العديد من المخلفات العظمية والغابات المتحجرة والهياكل الكاملة لحيوانات برمائية
كالتمساح وفرس النهر، بالإضافة الى الأسماك ، مما يعد انجازاً وطنياً خالصاً يضاف
الى الانجازات الوطنية في هذا المجال.
مع مرور الوقت ، وتدريجياً ، بدأت هذه
الظروف المناخية الرطبة في التغير شيئاً فشيئاً بدءاً من الألفية الثالثة قبل
الميلاد على الأقل ، وتغير الحال في نهاية الأمر الى أن أصبحت اغلب مناطق السودان
جزءاً من اكبر الصحاري في العالم.
السودان
ارض الحضارات
(4) السودان: أرض الذهب
د.
أزهري مصطفى صادق
لقد دللت الدراسات على
أن أقدم استخدام لموارد الذهب في صحراء السودان الشرقية يعود على الأقل الى نحو
3500 قبل الميلاد ، وربما كان التعدين بسيطاً لا يتعدى الحفر لأعماق غير بعيدة في
باطن الأرض ، ثم يسحن لاستخراج الشوائب والأتربة باستخدام أدوات طحن كبيرة من
الكوارتز أو الجرانيت. استمرت هذه الأساليب البسيطة لفترات طويلة ، خاصة من قبل
المصريين في فترات المملكة القديمة (2700 – 2160 ق.م) والمملكة الوسيطة (2119
– 1794 ق.م) ، ثم توسعت وتطورت خلال ما سمي بالمملكة الحديثة (1550 – 1070 ق.م)
حيث تصاعد استغلالهم للمنطقة جنوب ووسط الصحراء النوبية وحتى تلال البحر الأحمر
خاصة في مناطق وادي العلاقي ووادي قبقبة وغيرهما. تركزت أغلب عمليات
التعدين المصرية بشكل رئيس في تلك المواقع السودانية بحكم اجتياح حكام مصر خلال
تلك الفترة لجزء كبير مما اسموه قديماً بالنوبة ، والتي ربما جاءت من كلمة (نوب) التي تعني الذهب في
اللغة الهيروغليفية القديمة.
لم يكن تعدين الذهب
حكراً على حكام مصر من المصريين ، بل استمر كذلك خلال الفترات التي حُكمت فيها مصر
من قبل البطالمة والرومان والبيزنطيين ، واستُغلت أكبر مساحة ممكنة من الصحراء على
الرغم من أن التعدين تركز بشكل أكبر على الجزء الجنوبي من مصر خاصة في منطقة وادي
العلاقي.
أما خلال فترات السودان
القديم ، فقد كانت هناك بعض الدلائل القليلة على التعدين في فترة حضارة كرمة (2500
– 1500 ق.م) ، وازداد الاهتمام بالتعدين خلال الحكم الكوشي في نبتة ومروي (نحو 800
ق.م – 350 م) ،
بالرغم من أن ذلك لم يدرس باهتمام كبير بسبب استخدام الكوشيين لذات مواقع التعدين
القديمة وبالتالي كان من الصعب بالنسبة للباحثين وضع تسلسل واضح لاستخدامها وكميات
الذهب المستخرجة منها في تلك الفترة. مع ذلك فالناظر إلى ما
تركه الكوشيون من مشغولات ذهبية ، خاصة تلك المكتشفة في أهرامات البجراوية ،
وبالأخص في هرم الملكة أماني شاخيتو (حكمت
مروي من حوالى 10 ق.م إلى السنة الاولى من الميلاد) ، قد يدرك مدى استفادة
الكوشيين من مصادر الذهب آنذاك ، والتي مع ذلك لم تكن بذات المستوى الذي نراه في
العصور السابقة لعصرهم. استمر تعدين الذهب ،
ولو بكميات قليلة نسبياً ، خلال الفترات الأولى من الوجود العربي في السودان خاصة
في المناطق القريبة من نهر النيل، وبشكل أكبر على طول وادي العلاقي ، ووصل قمته
خلال القرنين العاشر والحادي عشر من الهجرة تحت إشراف ابن طولون (990 م) وحتى عام
1350 هـ تقريباً في الجزء الشمالي الشرقي من السودان.
إن ما نراه في يومنا
هذا ، مما يمكن أن نسميه (حمى البحث عن الذهب) ، التي أصابت الشباب والشيوخ (الدهابة) في
كثير من مناطق السودان الحبيب ، لهي صفحة من تاريخ طويل لتعدين الذهب في السودان ،
ولا زالت هناك العديد من المناطق التي تتطلب مزيداً من البحث ، ولو أن التاريخ
يؤكد أن التركيز الأكبر على التعدين كان في المنطقة الممتدة من النيل إلى البحر
الأحمر والتي بها آلاف من المواقع الأثرية التي تحتاج إلى حماية من الغزو البشري
الحديث لمناطق لم تطأها قدم إنسانٍ منذ آلاف السنين.